الشهيد المحرر طارق عز الدين والوفاء للمعتقلين
بقلم: د. رأفت حمدونة
للشهيد كرامات لم تخطر ببالنا لحظتها إلا بعد الفراق، حينه نبدأ بالقراءة لكل حدث، لكل ذاكر، ولكل كلمة، وبسمة، هو يدركها ولا ندركها، يراها ولم نرها، الشهداء وحدهم يزال عنهم الحجب، ويتصرفون بلغة الغيب اللامحدود، لا لغة القريب والمنظور.
قبيل استشهاده بأسبوع أو يزيد كان اليوم الأخير واللحظة الأخيرة بعد سهرة طويلة وحديث لا يمل، وقتها حضر (طارق بصحية زوجته وأطفاله ميار وعلى وعز الدين) في زيارة " لوالدتي" التي لم تفرق بينه وبين أبناءها، والتي كانت تصر على زيارته الاعتيادية رغم مرضها وقلة حيلتها بين الحين والآخر لبيته.
اتصل قبيلها بي
أنت عند الحجة يا أبو خليل؟صحيح يا أبا محمد؟سأحضر لزيارتها؟أهلاً وسهلاً، البيت بيتك في كل وقت وكل حين، وهذا واجبنا يا أبو محمد.ليس بيننا يا صديقى ، أنا سآتى لزيارة أمي، وهل بين الابن وأمه واجب؟بركة، نحن بانتظارك.في تلك الليلة الجميلة ضحكنا وتحدثنا كثيراً، وأعدنا الذكريات، كانت تطل علينا ميار وعلى بين الحين والآخر، لم ولن أنس تلك الابتسامة البريئة لميار وعلى .
تذكرنا يوم أن كان مريض بالسرطان وعزيمته القوية وثقته الكبيرة بالشفاء، حينما أخذته والأصدقاء للأرض لرؤية " أمي"، هناك تحت شجرة الزيتون فال لها : سأذكرك يا حجة أننى سآت مرات ومرات اليك وسأشفى باذن الله ، كان يصارع الموت بكل صبر وعزيمة وثقة بالله، أذكر المؤتمر الصحفى في مستشفى الرنتيسى بحى النصر ، والذى أعلنت فيه طبيبته الخطر الشديد على حياته ، وأن وعمره الباقى وفق حالته الصحية لن يتعدى الشهرين ، حينها كان يستمع للمؤتمر الصحفى على أثير إذاعة صوت الأسرى الذى يعد أهم مؤسسيها.
دخلت عليه في غرفته وقلت: سمعت المؤتمر الصحفي يا أبا محمد؟
فأجاب: الموت والحياة بيد الله يا صديقي، والمرض لا يميت، بل الأجل مكتوب، دعهم يقولوا ما يقولوا فالأعمار بيد الله.
كان طارق في قمة الضعف الجسدى ولكنه على ثقة بالشفاء والحياة، وفى المقابل وهو في ذروة القوة الجسدية بعد الشفاء كان مستحضراً الشهادة في كل لحظة، كان يقول: عشنا بما فيه الكفاية، ولم يبق في العمر بقدر ما مضى، وكان على يقين بلقاء الله في كل وقت وكل حين.
طارق صاحب الابتسامة والمجاهد والعنيد ، الذى أصر على النجاح أينما كان وحل، في مقاومته وجهاده ومطاردته، في سجنه واستغلال وقته وتحديه للسجان بطريقة تحرره وفى عطاءاته وتكملة تعليمه وإدارته لملفاته وانتماءه لعمله وتفانيه، ولوفائه لزملائه الأسرى وفى تطوير إذاعة صوت الأسرى، هذه الإذاعة التي كانت بيته الثاني، ومن فيها أهله أسوة بأهله، حتى أنه اختار مكان سكنه في نفس البرج " برج الجلاء " الذى تدمر في حرب 2021 ، فكان دائم الوجود فيها ليل نهار، لا تربطه ساعات الدوام وفوقية المدراء وتعاليهم في كثير من الأحيان.
كانت البدايات صعبة منذ بدء التأسيس مع الافراج عنه في صفقة وفاء الأحرار العام 2011، لم يكن له مكتب لضيق المكان ، داوم تحت ضغط العمل الشديد، استقبل الأسرى المحررين وذوى الأسرى بين المكاتب وفى الاستوديو، وضع شعار الوحدة الوطنية للإذاعة في اعلاناتها، حول الإذاعة لصوت كل الأسرى بالتوازى بلا حزبية ، كانت لديه رؤية تعدت الرسالة الإعلامية، حتى أنه أرهق زملاءه الموظفين لكن بسعادة منهم، كونهم أحبوه وأحبوا فيه الانتماء لهذه القضية الإنسانية والأخلاقية والوطنية، وعملوا معه رغم التعب بوفاء، وكان لهم خير أخ أبعد من ساعات العمل، فشاركهم فرحتهم وهمومهم واستعانوا به ولم يبخل عليهم بكل ما يملك.
جعل من إذاعة صوت الأسرى إذاعة منافسة رغم حداثتها، استهدف فيها كل الشرائح المجتمعية من الطفل بالمسابقة حتى الشيخ ببيت جدى، ودخل من خلالها كل بيوت الأسرى بلا تمييز انتماء، استطاع صوتها أن يصل لجنين واقصى الشمال، واستمع محبيها لها أقصى جنوب القطاع حتى العريش، كانت رسائل الأسرى تأتى له من كل أسير وكل سجن ومعتقل، جعلها حلقة الوصل بين الأسرى وذويهم في الحروب والاضرابات وانقطاع الزيارات وفى زنازين العزل الانفرادى.
حولها لمصدر خبر لوسائل الاعلام، كان على تواصل دائم مع زملاءه الأسرى، كان الإعلان اليومى للأعوام الجديدة لكل أسير على مدار العام، حول الإذاعة إلى مؤسسة صنعت الحدث، وأعلن موقعاً خاصاً لإذاعة الأسرى وبرامجها يؤمه المختصون ووسائل الاعلام، وأعلن عن الفعاليات وخرج الموظفون بأعلام الإذاعة وشعارها ، ولم تشارك فيها فقط مشاركة، وكانت المبادرة دوما بالموجات الاذاعية المتضامنة مع المضربين.
كان طارق – وفق شهادة زملاءه - أول الحاضرين في الدوام، وآخر العائدين لبيته منها، كان يغضب عند شعوره بالتقصير، وكان يكافئهم لحظة العطاء بخير الجزاء، جعل من قضية الأسرى هم الموظفين الذي اختارهم بنفسه على قاعدة الكفاءة، وأكد على وطنية القضية بلا حزبية، فكانت صوت الأسرى صوت القضية الفلسطينية، صوت الوحدة الوطنية".
وفي نهاية اللقاء الذي تطرق للكثير، أحب أبا محمد الاعلام، الذي اختاره كتعليم في أعقاب عمله في إذاعة صوت الأسرى، الذى كان أكثر الأماكن حباً لها في قلبه، وأكثر الأصدقاء شوقاً اليهم وقت راحته، كان وفياً لها ولهم، وكانوا أكثر حزناً عليه بشهادته.
لم أدرك أن آخر اللقاءات كانت في تلك اللحظات الجميلة، ولم يخطر ببالى أن هذا الإصرار على الحضور كان الوداع الأخير، وأن تلك الخطوات من باب البيت حتى باب السيارة هي آخر الخطوات قبل الصعود إلى الجنة، وأن تلك الابتسامة ستعيش معى ما حييت على أمل اللقاء به على مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فسلام عليك بقدر انتماءك للأسرى وللمعتقلين
وإلى الملتقى يا صاحبى في عليين
هنالك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وسلام عليك يا أبا محمد إلى يوم الدين